جمع مؤتمر بيتكوين الشرق الأوسط وشمال أفريقيا 2025، الذي عُقد في الإمارات العربية المتحدة، صانعي السياسات والمستثمرين المؤسسيين وقادة البنية التحتية لمناقشة الدور المتنامي للمنطقة في منظومة بيتكوين العالمية. وأبرز هذا الحدث كيف تحوّل الشرق الأوسط، ولا سيما الإمارات، من وجهة غير متوقعة لتعدين العملات الرقمية إلى مركز استراتيجي متزايد الأهمية للبنية التحتية للأصول الرقمية، مدفوعًا بالوضوح التنظيمي، والشراكات في قطاع الطاقة، ونماذج الاستثمار المدعومة حكوميًا.
وقد شهد إطار الأصول الرقمية في الإمارات تطورًا سريعًا خلال العقد الماضي، حيث وضعت الهيئات التنظيمية، بما في ذلك سوق أبوظبي العالمي (ADGM)، وهيئة تنظيم الأصول الرقمية (VARA)، والمصرف المركزي لدولة الإمارات العربية المتحدة، قواعد موحدة للترخيص والحفظ وإدارة الخزينة وعمليات التعدين. وبفضل بيئة الأعمال المواتية في الدولة وشبكة الترابط العالمية، اجتذبت هذه السياسات شركات العملات الرقمية الدولية ومزودي البنية التحتية وشركاء رأس المال لإنشاء مقرات إقليمية وقواعد تشغيلية في أبوظبي ودبي.
في هذا السياق، تناولت إحدى أكثر جلسات المؤتمر ترقبًا، بعنوان “لماذا منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مهيأة لتعدين البيتكوين؟”
ناقشت الجلسة كيف يُعيد الاستقرار التنظيمي وإدارة الطاقة والشراكات المؤسسية تشكيل اقتصاديات التعدين في المنطقة. أدار الجلسة وليد أبو زكي، الرئيس التنفيذي لشركة “أنلوك بلوكتشين”، وشارك فيها فيصل الحمادي، الشريك الإداري في شركة Further، وهشام شاهين، المؤسس والرئيس التنفيذي المشارك لمجموعة NIP.
وضوح اللوائح التنظيمية واستراتيجية الطاقة يدفعان نمو التعدين
في بداية النقاش، أكد الحمادي على أهمية اتساق السياسات كعامل تمييز حاسم لدولة الإمارات مقارنةً بغيرها من الدول حول العالم. على مدى عقد تقريبًا، تبنت الإمارات موقفًا مستقرًا ومرحبًا بالأصول الرقمية، مما منح المستثمرين على المدى الطويل الثقة لاستثمار رؤوس أموالهم دون خوف من تغييرات تنظيمية مفاجئة. يُمكّن هذا الاستقرار شركات التعدين ومشغلي البنية التحتية من بناء استراتيجيات استثمارية متعددة السنوات تشمل نشر الأجهزة، ودمجها في الشبكة، وإدارة الخزينة.
كما لعب ترشيد استهلاك الطاقة دورًا حاسمًا. أشار الحمادي إلى أن الإمارات تستهلك في الصيف ما يقارب ثلاثة أضعاف استهلاكها في الشتاء من الكهرباء، مما يُخلّف فائضًا كبيرًا في الطاقة خلال الأشهر الباردة. وقد برز تعدين البيتكوين كحل مرن للاستفادة من هذه الطاقة الفائضة مع دعم كفاءة الشبكة. وقال: “تتزايد أهمية العلاقة التكاملية بين شركات التعدين وشركات الطاقة، وهي علاقة مربحة للطرفين، تُفيد كلاً من شركات المرافق الحكومية ومشغلي البنية التحتية لتقنية البلوكتشين”.
من الألعاب إلى التعدين: التوسع الإقليمي لمجموعة NIP
استعرض شاهين تطور مجموعة NIP من عمليات الألعاب العالمية إلى البنية التحتية الحاسوبية وتعدين البيتكوين. وقد انطلقت رحلة الشركة في مجال التعدين من حاجتها إلى تأمين قدرة حاسوبية واسعة النطاق لتطبيقات الذكاء الاصطناعي المستقبلية. ووفقًا لشاهين، كانت كفاءة الأعمال الشاملة في الإمارات، والترابط اللوجستي، وعمق النظام التنظيمي، عوامل حاسمة في اختيار أبوظبي كقاعدة للتوسع. وتعمل NIP حاليًا بموجب أطر ترخيص سوق أبوظبي العالمي، التي توفر مسارات واضحة ليس فقط للتعدين، بل أيضًا لإدارة خزائن العملات الرقمية وحفظها والامتثال التشغيلي.
قال شاهين: “بمجرد أن بدأنا استكشاف منظومة التعدين والأصول الرقمية هنا، أدركنا أنها من أكثر المناطق تنظيمًا وموثوقيةً على مستوى العالم للعمل فيها”.
الدعم الحكومي والمؤسسي يُسرّع النمو
أكد الحمادي كيف ساهم التعاون بين القطاعين العام والخاص في تسريع نمو قطاع التعدين على نطاق صناعي في الإمارات. فالجهات الحكومية لا تكتفي بمنح التراخيص، بل تدعم بنشاط تطوير السوق من خلال دعم الاستثمار، وشراكات البنية التحتية، والتنسيق على مستوى القطاع. وقد مكّن هذا النموذج أبوظبي من تطوير بعضٍ من أكبر عمليات التعدين في المنطقة في غضون أشهر. كما عزز التعاون مع شركاء عالميين، من بينهم شركة التعدين الأميركية المدرجة في البورصة “ماراثون ديجيتال”، التي تعمل كشريك في رأس المال والتقنية في مواقع أبوظبي، الأداء التشغيلي والمصداقية الدولية.
وكان لتكييف التكنولوجيا دور حاسم في التغلب على تحديات المناخ في المنطقة. وأوضح الحمادي أن الاختبارات المكثفة لأنظمة التبريد أدت إلى اعتماد التبريد السائل بالغمر، الذي يُعتبر الآن الحل الأمثل للحفاظ على الأداء في ظل ظروف الغبار ودرجات الحرارة المرتفعة.
تعدين البيتكوين كبوابة للحوسبة الذكية
بالنسبة لمجموعة NIP، يُمثل تعدين البيتكوين أكثر من مجرد توليد عملات، فهو مسار استراتيجي نحو بنية تحتية للحوسبة الذكية. وصف شاهين التعدين بأنه نشاط تجاري يُحوّل الكهرباء إلى أصل، مع ضمان الوصول إلى قدرة طاقة قابلة للتوسع يمكن إعادة توظيفها لاحقًا في تطبيقات حوسبة عالية الأداء واسعة النطاق. وأوضح: “مع توسيع نطاق الوصول إلى الطاقة، يمكن لهذه الطاقة دعم عمليات تعدين البيتكوين أو توجيهها نحو تطبيقات أخرى تعتمد على الحوسبة، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي”. يُتيح نموذج المسارين مرونةً، حيث يُولّد تدفقًا نقديًا من خلال التعدين خلال دورات محددة، مع العمل في الوقت نفسه على بناء استراتيجيات نشر الذكاء الاصطناعي على المدى الطويل.
ظهور “البيتكوين البكر” ونماذج الخزينة
انتقل النقاش إلى “البيتكوين البكر”، وهي عملات معدّنة حديثًا بدون سجل معاملات سابق، والتي أشار المشاركون إلى أنها قد تُطوّر قيمة مُضافة بمرور الوقت، حيث تسعى المؤسسات إلى أصول شفافة وقابلة للتتبع بالكامل ضمن ميزانياتها العمومية الخاضعة للتنظيم. أكد الحمادي أيضًا أن شركة “فورذر” تحتفظ بمخصصات من البيتكوين ضمن خزائنها، مستخدمةً هذه المخصصات ليس فقط لزيادة قيمة الأصول، بل أيضًا كأداة لرأس المال العامل لدعم الشركات التابعة لها التي تحتاج إلى خدمات تسوية المدفوعات والسيولة. وتوقع ظهور نماذج خزائن الشركات في الإمارات، على غرار شركات خزائن البيتكوين العامة الكبيرة عالميًا، مشيرًا إلى أن الزخم يتزايد بين الشركات الخاصة والعامة على حد سواء.
هل يمكن للحكومات امتلاك البيتكوين بشكل مباشر؟
عند سؤالهما عن احتياطيات البيتكوين السيادية، أقر المتحدثان بتزايد الزخم العالمي نحو امتلاك الحكومات للبيتكوين، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. وأشار شاهين إلى أن مؤسسات الثروة السيادية في الإمارات تمتلك بالفعل حصصًا من البيتكوين عبر صناديق التداول الفورية والاستثمارات المدعومة بالتعدين، حيث تُراكم البيتكوين من خلال أنشطتها التشغيلية بدلًا من عمليات الشراء المباشرة في الميزانية العمومية. وأضاف الحمادي أن الاستحواذ السيادي المباشر يتطلب تطوير جهات مقابلة بمستوى مؤسسي وبنية تحتية لحفظ الأصول، وهي عملية يتوقع أن تكتمل خلال العامين المقبلين مع توسع البنوك العالمية الكبرى في خدمات الأصول الرقمية في الإمارات.
ما يلزم للمرحلة القادمة
خلصت اللجنة إلى أن ريادة الإمارات لن تعتمد فقط على نمو قطاع تعدين العملات الرقمية، بل أيضًا على توسيع البنية التحتية للخدمات المهنية المحيطة به، بما في ذلك خدمات التدقيق، والبنوك، وأمناء الحفظ، ومديري الصناديق القادرين على خدمة خزائن الأصول الرقمية واسعة النطاق. ومع نضوج هذه الخدمات، من المتوقع أن ترتفع ثقة المؤسسات، مما سيحفز تدفق المزيد من رؤوس الأموال إلى منصات التعدين والاستثمار فيها. وخلص الحمادي إلى أن تعدين البيتكوين في الإمارات أصبح جزءًا لا يتجزأ من منظومة مالية أوسع وأكثر تنوعًا، بدلاً من كونه نشاطًا قائماً بذاته.
الإمارات تعزز دورها في المشهد العالمي للبيتكوين
استعرض مؤتمر ومعرض بيتكوين الشرق الأوسط وشمال أفريقيا 2025 كيف تجاوزت الإمارات مرحلة الطموح التنظيمي إلى التنفيذ العملي، من خلال الجمع بين وضوح اللوائح، والابتكار في قطاع الطاقة، والشراكات الحكومية، والتعاون بين مختلف القطاعات، مما وضع المنطقة في طليعة تطوير البنية التحتية لتعدين الأصول الرقمية. وكما أكد المتحدثان، فإن التعدين الآن لا يمثل سوى عنصر واحد من نظام بيئي أوسع، يشمل إدارة الخزينة، والحوسبة بالذكاء الاصطناعي، والشراكات المصرفية العالمية، والتجارب على مستوى الدولة، حيث تعمل الإمارات بشكل متزايد كمركز لهذا التقارب.
